445

المدينية التي احتفظ معظمها بدوره كمدن كبيرة حتى عصرنا هذا، ثمة مراكز مدينية دب فيها النشــاط من جديد وبلغ اتساعها وسكانها وتأثيرها أبعادا لم تكن معروفة حتى ذلك الحين…” هذا التحول والازدهار الهائل وبالرغم من الإمكانيات التقليدية التي كانت سائدة آنذاك جعلت من هذه المدينة قبلة ومستقرا ومعاشا وتنوعا ثقافيا وعلميا وتجاريا وزراعياً لا نظير له في التاريخ. مدينة صحية وفي نفس الوقت كانت مدينة صحية يطيب فيها الماء والهواء ويقل الوباء والطاعون ومــا إلى ذلك مما كان يجتاح غيرها من المدن. وكما هو مشهور عن ابن خلدون، باعتباره فيلسوفا وراصدا عمرانيا، بامتياز أنه أول من أسس علم الاجتماع بمفهومه العلمي واهتم بالعمران البشري وما يتسلل وينضح عنه من مظاهر وقوانين وأعراف وعادات متعددة، فــي حين كان التركيز على نظرياته وآرائه حول الدولة وجدلية البــداوة والحضر، ولكن لــم ينتبه الكثير إلى بعض الإلماحــات والاراء الصحية والبيئية في تصوره للمدينة وكيفية الحفاظ على ســ متها، باعتبارها عنصرا مهما جدا في دعم التنمية وتحصيل الاستقرار لدى المجتمع البشري والدولة معا، ومن الواضح أنه قد أشــار إلى الأبعاد النفسية والصحية، إذ تحدث في الفصل الخمسين مــن المقدمة  – كتاب مقدمة ابن خلدون – عن مسألة جد مهمة وخطيرة ألا وهي حصول المجاعات والفاقه بالمدينة ووقوع الوفيات أكثر مما عليه الحال في البوادي. إذ المجاعات تكون بســبب الاضطراب والاختلالات والتوقف عن الإنتاج الزراعي وهذا معقول وبسيط، كما قد يكون سببها الاحتكار عند العوام، باستثناء احتكار الدولة للحبوب، فيرى أنه إيجابي في حالة اهتزاز الاســتقرار لأنها تكون الضامنة للتوزيع العادل للمؤونة بين السكان؟ أما الوفيات فهي إما من جهة انتشار المجاعة وإما من جهة الأمراض والأعراض المترتبة عنها. فالأولى زراعيــة والثانية صحية. وهذه الأخيرة قد تؤثر على الأولى وتلغي دورها، باعتبار العنصر البيئي والصحي أخطر من الاحتكار. يقول ابن خلدون:”وأما كثرة الموتى فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرنا،أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل، أو وقوع الوباء.وسببه في الغالب فساد وتلوث الهواء بكثرة واتساع العمران لكثرة ما يخالطه ويصيبه من العفن والرطوبات الفاسدة، وإذا فسد الهواء وهو غذاء (الروح) الحيواني ما يرتديه دائما فيســري بالتالي الفســاد إلى مزاجه، فإن كان الفســاد قويا وقع المرض في الرئة. وهذه هي حــالات الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة. عنصر مؤسس وإن كان الفســاد دون القــوي والكثيــر فيكثر العفن ويتضاعف، فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك…”. فلقد وضع ابن خلدون هنا أصبعه على أهم عنصر مؤسس للمدينة، قبل أشكال وإقامة المباني وقبل التخطيط لفرص العمل وتنشيط العمل السياحي وتشييد المؤسسات العامة والحكومية.كما أنه وبكل وضوح يشير إلى مرض السل، أو مرض الدرن ومعه حالات الربو وما يليه، الذي يجتاح كثيرا من المدن غير مهيئة بيئيا ولا تتمتع بالقدر الكافي من الأكسجين النقي ومعه أشعة الشمس، وذلك حينما ركــز على مرض معين هو أصل الأمــراض البيئية ألا وهو مرض الرئة، أي غيــاب الهواء العليل والتنفس الســليم الذي سيؤثر لا محالة على صحة المواطن الجسمية وصحته النفسية معا، لأنه بقدر ما ضاق التنفس ضاقت معه النفس والتفكير وســاء الخلق وبدت مظاهر الاضطراب العصبي والهذيان وما إلى ذلك. كما تقول القاعدة الطبية:”الهواء النقي ينعش ويجدد العقل، لكن ابن خلدون لم يتوقف عند هذا الكشف الدقيق عن أمراض العمران البيئية وإنما يذهب إلى اقتراح التهيئة الحضرية كان التركيز على نظرياته وآرائه حول الدولة وجدلية البداوة والحضر 35 الجمعيةالكويتيةلحمايةالبيئة 2022 ) - يونيو 445 العدد (

RkJQdWJsaXNoZXIy MTgzNg==