455

على الأرض . وبهذا أصبح تقدم الإنسان ســاحقاً لا يعرف الهوادة في تتبع تلك الحيوانات، فاختفت الزرافة والفيل من شــمال وادي النيل في بداية العصور التاريخية على الرغم من أن الأســلحة التي استعملها الذين عاشوا في العصور الموغلة في القدم لم تكن إلا أسلحة بدائية . ومع ترقي أسلحة الصيد إلى صورة أشد فتكا وأيسر استعمالاً، امتهدت السبيل للقضاء على الوحوش في شمالي وادي النيل . ومما لا ينبغي تجاهله أن الملوك المغرمين بالصيد في بلد الشرق القديم، كانوا على أقوى الأســباب في القضاء على الفيلة الآســيوية في سهول أعالي الفرات منذ بضعة آلاف من الســنين. وكلما ازدادت مقدرة الإنسان على إزعاج الحيوان المستوحش، آذن ذلك بإنقراض نوعــه، وليس يعلم أحــد إلا الله تعالى ماذا تكون النتيجة بعد ذلك. كذلك ذكر الأســتاذ العلمــة (جيمس برستد) في كتابه (انتصار الحضارة) وباســتصحاب هذا المعنى أستطيع أن أقرر واثقاً أن هذا النظر كان من أقوى الأسباب التي حملت الحكومات المختلفة في الســودان الشقيق على وضع قيود للصيد، تبقي على كثير من الحيوانات الثديية في غابات الجنوب . الأسد شرطي مرور : لست أنسى في تلكم الرحلة ليلة بدأنا فيها السير بعد منتصف الليل في تلكم الغابات، وبينما نحن نمضي على طريق من الطرق الضيقة المشــقوقة وســط الأشــجار، إذا صوت هائل يخرج من جوف الغابة يكاد يصم الآذان، ألقى في روعنا جميعاً خوفاً ملك علينا مشاعرنا واستبد بحواسنا. فوقفت السيارة، وأخذ السائق يحرك مصابيحها في سائر الجهات لأنه يعرف أن الوحشيات تخشى ضوء المصابيح. وانطلق أحد المرافقين يقص قصة شهدها فيقول : لقد كانت تمر في مثل هذا الوقت علــى إحدى الطرق في هــذه الغابات ســيارات، وفيم كانت رحلتها تمضي إلــى غايتها آمنة، وقف فجأة ســائق إحدى الســيارات ثم لفت القوم الذين معه إلى منظر رهيب، لا قبل للسيارات معــه بالحركة، ونظــر القوم إلى أمام فإذا جثة هائلة لأســد لا يعنيه من أمر الناس شيء ، خرج من الغابة ثم تمدد وسط الطريق ووجهه إلى الغابة وجنبه الأيمن إلى مقدم السيارة فذهب الخوف فيها الســيارات كأحسن ما يكون السير لينا وسلاسة . وما أكثر ما رأينا ويرى الســالكون في هذه الطرق، ســودانيات صغيرات يحملن ســ لاً مملوءة بالبيــض، ويعرضنها على السائرين وهن قائلات :( تبغي جني الدجاج)؛ وهو على ما تــرى تعبير عربي أصيل، يكشــف في أنفس الجنوبيين عن عروقهم المصرية التي تتمثل لهم في آباء مجاهدين، ذهبوا إلــى تلك الجهات في الأيام الخوالي ثــم تزوجوا من أهليها وأنسلوا، ولا تزال أنسالهم تعيش هناك حتى يوم الناس هذا. وعلى ذكر جمعيات التبشــير التي أثــرت تأثيراً واضحاً في جنوب السودان والتي آتت أكلها على ما يبدو في هذه الأيام، أقرر هنا - الله ثم للتاريخ – أنني حين عدت من تلكم الرحلة رفعــت إلى رئيــس الدولة آنئذ تقريراً تضمــن النتيجة التي اســتخلصتها، ورأيت في ضــوء هديها أن أول واجب علينا فــي تلك الظروف إيفاد بعثات إســ مية مــزودة بما يحتاج إليــه أهل الجنوب، لكي نســتطيع أن تحقق من هذا الطريق خيراً تتطلع إليه الشــقيقتان مصر والســودان . وذكرت أن فــي وزارة الأوقاف وقفاً كبيــراً على الجيش التركي، يمكن تحويله إلى الإســهام بأوفى نصيب في هذا المجال من أجل هذه الغاية الشريفة ، وليس هناك ما يمنع تحويل غرض هذا الوقف لا من ناحية الواقع ولا من ناحية الشريعة ، وذلك أن الجيش التركي لم يعد جيشاً إسلامياً يستحق هذا الوقف في الحدود التي أرادها الواقف، ثم إن الشــريعة لا تمنع تحقيق الغرض الشريف الذي تحراه الواقف بتحويل وقفه من جهة بــر أرادهــا إلى جهة بر أولى منهــا . ولئن كنت لم أبلغ من ذلك ما أريد الأسباب فوق طاقتي، لقد كان ذلك لأمر لا يعلمه إلا علام الغيوب . 19 الجمعيةالكويتيةلحمايةالبيئة 2023 ) - ابريل 455 العدد (

RkJQdWJsaXNoZXIy MTgzNg==